شبكة قدس الإخبارية

المجلس المركزي وتضييق البيت الفلسطيني..  تغليب الهيمنة على ضرورات الوحدة

٢١٣

 

المجلس المركزي وتضييق البيت الفلسطيني..  تغليب الهيمنة على ضرورات الوحدة
أحمد الطناني

رام الله - خاص قدس الإخبارية: تنعقد جلسة المجلس المركزي الفلسطيني في رام الله، في ظل واقع فلسطيني بالغ التعقيد، يتداخل فيه العدوان المتواصل على قطاع غزة، مع حالة ترهل سياسي رسمي، وتآكل الثقة بالقيادة الرسمية، وتزايد الضغوط الإقليمية والدولية لإجراء إصلاحات في بنية النظام السياسي. 

ورغم الشعارات التي رُفعت تحت عنوان "الوحدة والصمود"، إلا أن أجندة الاجتماع تكشف انشغالًا بالترتيبات الداخلية وتعزيز الهيمنة داخل منظمة التحرير، على حساب التحديات الوجودية التي تعصف بالقضية الفلسطينية ومصير شعبها.

حين تُختل الأولويات ويُفرّط بالوحدة

تمرّ القضية الفلسطينية بلحظة تاريخية فارقة تُصنّف ضمن أكثر المراحل حساسية منذ نكسة عام 1967. وإذا كانت تلك النكسة قد شكلت اختبارًا قاسيًا لصدقية الأنظمة العربية والتزامها تجاه فلسطين، فإن الفلسطيني آنذاك تجاوز صدمة الخذلان وأطلق ثورته المعاصرة ممسكًا بزمام المبادرة، فإن اللحظة الراهنة تختبر، بشكل مختلف، صدقية القوى الفلسطينية ذاتها: الوطنية والإسلامية، ومقدرتها على أن تكون صوتًا حقيقيًا لهذا الشعب ومعبرًا عن تطلعاته في زمن الإبادة والتصفية الشاملة.

الحرب الصهيونية المفتوحة على قطاع غزة منذ أكثر من عام ونصف، ليست مجرد جولة جديدة من القصف والتدمير، بل هي خطة اجتثاث منهجية تستهدف كل مكونات الوجود الفلسطيني: من الهوية الوطنية والكيانية السياسية، إلى البنية الاجتماعية ووحدة المصير، وصولًا إلى التهديد الوجودي للفلسطينيين على أرضهم، عبر مشاريع متدحرجة للتهجير تحت مسميات مُضلّلة مثل "التهجير الطوعي".

ويُخطئ من يظن أن هذه الحرب تستهدف قطاع غزة وحده، أو فصيلًا بعينه، أو حتى نهج المقاومة المسلحة فقط؛ فهي استهداف شامل للكل الفلسطيني، وللرواية الفلسطينية، ولمجرد فكرة أن لهذا الشعب الحق في وطن ودولة. إنها حرب لإغلاق قوس الشعب الفلسطيني، ومحو أي تمثُّل جمعي له، ونسف الأمل بالتحرر أو الاستقلال.

ولذلك، فإن اللحظة تتطلب – بأبسط منطق نضالي – إعادة صياغة الأولويات الوطنية، وتجميد الخلافات، وخلق حالة وحدة ميدانية وسياسية عاجلة، ترتكز على برنامج كفاحي جامع، تُستنهض فيه كل الطاقات، وتُوحد فيه كل الجبهات، بما يليق بحركة تحرر تقاتل على حافة الإبادة.

لكن الواقع السياسي الفلسطيني، وتحديدًا الرسمي، يبدو وكأنه يتجاهل فداحة اللحظة وخطورتها. فعلى مدار أكثر من 19 شهرًا من الإبادة المتواصلة، لم تبرز أي مؤشرات جدية على إعادة تقييم الأولويات أو تفعيل البرنامج الوطني الجامع. 

بل بالعكس، شهدت المرحلة الحالية مزيدًا من التراجع عن تفاهمات سابقة واتفاقات وُقّعت في موسكو وبكين والقاهرة. وقد تكرّس هذا التنكر عبر تعطيل حكومة الوحدة، وعرقلة لجنة الإسناد المجتمعي، وغياب أي تحرك جدي لعقد اجتماع الأمناء العامين.

المجلس المركزي: بين شعارات الوحدة وأجندة إعادة قولبة القيادة

تنعقد أعمال الدورة الثانية والثلاثين للمجلس المركزي الفلسطيني في مدينة رام الله، تحت شعار يبدو في ظاهره جامعًا: "لا للتهجير والضم، الثبات في الوطن، إنقاذ أهلنا في غزة، حماية القدس والضفة، نعم للوحدة الوطنية". غير أن ما يتكشف في كواليس الاجتماعات التمهيدية، وما تنضح به أجندة الدورة، يكشف عن حقيقة مغايرة تمامًا لما ترفعه اللافتات.

فقد وُجّهت الدعوات لـ180 عضوًا في المجلس، لحضور اجتماعات تستمر يومين برئاسة الرئيس محمود عباس، حيث تتوزع النقاشات، ظاهريًا، بين ملفات كبرى: وقف العدوان على غزة، رفض التهجير وخطط الضم، سبل استعادة الوحدة، ومستقبل إدارة غزة في "اليوم التالي". إلا أن بندًا واحدًا طغى على كل التحضيرات وألقى بظلاله على مجمل النقاشات، هو: استحداث منصب نائب لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

هذا العنوان، رغم هامشيته مقارنة بخطورة القضايا المصيرية المطروحة، شكّل جوهر الاتصالات التمهيدية التي قادتها لجنة مُشكّلة من الرئاسة لمحاورة الفصائل، بهدف تأمين "نصاب وطني" يُضفي غطاءً شرعيًا على خطوة توصف بأنها استمرار لنهج هندسة قيادة المنظمة على مقاس السلطة، خارج الأطر القانونية والنظامية.

من حيث المبدأ، لم تكن الشرعية داخل منظمة التحرير تاريخيًا نتاج صناديق اقتراع، بل ثمرة شرعية توافقية بين القوى الوطنية حين كانت المنظمة مظلة تمثيلية جامعة. أما اليوم، فالواقع مغاير: المنظمة لا تمثّل الكل الفلسطيني، ولا حتى كل فصائلها التاريخية، ما يجعل أي تغيير بنيوي فيها فاقدًا للغُطاء التوافقي.

الأزمة لا تتوقف عند حدود الغياب التوافقي، بل تمتد إلى جذر قانوني أعمق. فبحسب النظام الأساسي للمنظمة، فإن المجلس الوطني – لا المركزي – هو الجسم المخوّل بإحداث تعديلات جوهرية، بما فيها انتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية، أو استحداث مناصب جديدة فيها.

لكن، وبموجب تفويض مُثير للجدل أُقرّ عام 2018، مُنح المجلس المركزي صلاحيات المجلس الوطني، مما أتاح للقيادة تمرير سلسلة من التعديلات الحساسة: من انتخاب رئاسة المجلس الوطني، إلى تشكيل اللجنة التنفيذية، وصولًا إلى طرح منصب نائب الرئيس.

ما يجري اليوم ليس مجرد نقاش إجرائي حول منصب إضافي، بل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من إعادة قولبة المؤسسة الأم للكيانية الوطنية الفلسطينية، في لحظة كان يفترض أن تُوظف فيها كل أدوات النظام السياسي الفلسطيني في خدمة معركة الصمود الوطني، لا في خدمة ترتيب داخلي على مقاس تيار سياسي واحد.

إصلاحات تحت الضغط أم إعادة تمكين؟

لم يكن إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خلال القمة العربية الأخيرة، عن نيّته إجراء إصلاحات سياسية سوى انعكاس مباشر لضغوط إقليمية ودولية متزايدة، باتت لا تستهدف فقط أداء السلطة الفلسطينية، بل تطال هيكل النظام السياسي الفلسطيني برمّته.

فالدول الداعمة للسلطة – ماليًا وسياسيًا – لم تعد تكتفي بالمطالبة بتحسين الأداء، بل وضعت اشتراطات تتعلق بـمحاربة الفساد، كبح هيمنة الحلقة الضيقة المحيطة بالرئاسة، والانفتاح على معارضي "فتح" من داخل البيت الفتحاوي نفسه، خصوصًا استجابةً لمطالب خليجية. بينما تركزت مطالب الدول الأوروبية حول تعزيز الشفافية، وضمان التجديد السياسي، ومنع الانزلاق إلى انتخابات دون ضمانات مسبقة.

أما الولايات المتحدة، فقد حددت منذ بدايات حرب الإبادة الجارية على غزة أن "سلطة متجددة" – وفق تعريفها – هي من يجب أن تتولى إدارة الأراضي الفلسطينية في أي مرحلة قادمة، وفقًا للإدارة السابقة. ومع ذلك، ورغم حرص السلطة على إرسال رسائل "اعتماد" سياسية إلى إدارة ترامب، فإن هذه الإدارة لم تُبدِ أي حماس، باستثناء لقاء يتيم رتّبته السعودية بين المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف والمرشح الأبرز لأن يكون نائب عباس، حسين الشيخ.

في هذا السياق، لم يتجه الرئيس عباس نحو أي إصلاحات جوهرية فعلية. بل اختار مسارًا معاكسًا تمامًا، قائمًا على المناورة وتحصين موقعه، عبر سلسلة خطوات استباقية تهدف إلى إعادة إحكام قبضته على مفاصل القرار الفلسطيني الرسمي، والتصدي لأي محاولات "تجاوز" محتملة، خاصة في ظل ما لمسه من فتور عربي تجاه دوره.

وبينما ظهر بمظهر المتجاوب في القمة العربية – مُعلنًا "الإصلاح" تحت الضغط – كان عمليًا يعمل على إعادة تمتين دائرة الهيمنة السياسية، وتدعيم سلطته، لا تقويضها. بل ذهب أبعد من ذلك حين فرض مرشحه الوحيد لمنصب نائب رئيس اللجنة التنفيذية، حسين الشيخ، رجل المهام الثقيلة وصاحب النفوذ الواسع داخل السلطة والمنظمة، على الرغم من رغبة عربية واضحة بأن يكون النائب من خارج الدائرة المقرّبة.

تمكّن عباس من تفكيك الموقفين الأردني والمصري، وعزّز حضوره لدى السعودية، واضعًا بذلك حجر الزاوية في هندسة مرحلة جديدة من "الإصلاح الشكلي" الذي يُبقي زمام السلطة مركزًا بالكامل في يده وفريقه، ويغلق الباب أمام أي تحوّل توافقي حقيقي.

وبدلًا من إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية كمظلّة جامعة، والانخراط في إصلاح جدي يُعيد الثقة بالمؤسسة الوطنية، اختار عباس إعادة قولبة الهيمنة داخل الإطار الرسمي الفلسطيني، واضعًا كل مفاصل القرار داخل حركة "فتح"، متجاوزًا حتى الأعراف التنظيمية التاريخية التي كانت توزّع رمزيًا المناصب في اللجنة التنفيذية على مختلف فصائل المنظمة، لضمانشكل من أشكال "الشراكة".

هكذا، تُدار المعركة الوجودية التي يخوضها الشعب الفلسطيني، بينما القيادة الرسمية تُمعن في تعزيز نفوذها، لا في بناء وحدة وطنية مقاومة.

المجلس المركزي في وادٍ... والمعركة الوطنية في وادٍ آخر

في مقابل اللحظة التاريخية الأكثر خطورة التي تمر بها القضية الفلسطينية، يبدو أن القيادة المهيمنة على منظمة التحرير وحركة "فتح"، اختارت المضي قُدمًا في إجراءات تعزز هيمنتها وتعيد هندسة المشهد السياسي الفلسطيني على مقاسها، حتى وإن تعارض ذلك مع متطلبات الوحدة الوطنية أو استحقاقات الصمود في وجه مشروع التصفية الصهيوني.

في المقابل، علت أصوات وطنية وفصائلية تحاول كسر هذا السياق، داعية إلى مسار توحيدي يعيد الاعتبار للمشروع الوطني ويُخرج الحالة الفلسطينية من مأزق الانقسام والتفكك.

ومن أبرز هذه الأصوات، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثاني أكبر فصيل في منظمة التحرير وأحد أركان المقاومة الفلسطينية، التي كشفت في بيان مكتبها السياسي الأخير عن رؤية متكاملة قدّمتها خلال لقاء مع وفد "فتح"، شددت فيها على أن وحدة الصف الوطني هي المدخل الحقيقي لمواجهة العدوان، وأن إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني ومنظمة التحرير على أسس ديمقراطية وتشاركية، هو ما يضمن إنهاء الانقسام ووقف التفرد بالقرار.

الجبهة رفضت المشاركة في اجتماع المجلس المركزي، واعتبرته "خطوة مجتزأة" لا تلبّي تحديات المرحلة، ولا تعكس ما تم التوافق عليه في الحوارات الوطنية المتكررة. وأكدت أن تجاوز هذا المسار يتطلب اجتماعًا وطنيًا جامعًا على مستوى الأمناء العامين، لتشكيل مجلس وطني جديد يعيد تمثيل الكل الفلسطيني، ويضع أساسًا لشراكة حقيقية في القرار الوطني ومقاومة الاحتلال، وصولًا إلى تشكيل حكومة توافق وطني وقيادة موحدة للمقاومة الشعبية.

هذه الرؤية التي تنطلق من تمسّك عميق بوحدانية التمثيل الفلسطيني وحرص على صون منظمة التحرير، قُدّمت بشكل مباشر إلى "فتح"، ضمن محاولات الأخيرة لتأمين حضور الجبهة في اجتماع المجلس المركزي، الهادف أساسًا – كما بات واضحًا – لتمرير تعيين نائب لرئيس اللجنة التنفيذية.

لكن "فتح" أصرت على تجاوز كل الأصوات، بما فيها تلك المنخرطة في منظمة التحرير، وواصلت إدارة المشهد وفق رؤية أحادية، حجبت الملفات الوجودية لحساب ترتيبات داخلية تعزز منطق الهيمنة وتُضعف فرص التوافق.

الأزمة لم تتوقف عند هذا الحد. فقد جاءت كلمة الرئيس محمود عباس في افتتاح أعمال المجلس، لتضيف مزيدًا من التشويش، حيث حملت مغالطات سياسية كبيرة، تعكس ذهنية إنكار للواقع، وسردية تُحمّل الضحية مسؤولية الجريمة الواقعة عليها، وتتماهى – ولو ضمنيًا – مع اشتراطات الاحتلال والإدارة الأمريكية، على حساب حق الفلسطيني في مقاومة العدوان والدفاع عن وجوده.

إن دورة المجلس المركزي، بكل ما حفّ بها من سياقات ومضامين، تكشف حجم الفجوة الآخذة بالاتساع بين المنظومة الرسمية، وبين نبض الشارع الفلسطيني وضرورات المعركة الوطنية، إذ بات واضحًا أن هناك من يسعى لحجز المؤسسات الفلسطينية داخل دوائر ضيقة من النفوذ، بينما تتعرض غزة والضفة لعمليات اجتثاث، تهدد ما تبقى من الكينونة الفلسطينية.

والأخطر أن حالة الاستنزاف لا تطال الجغرافيا والدم فقط، بل تمتد إلى رصيد المشروع الوطني، في وقت يحتاج فيه الفلسطينيون إلى قيادة جامعة، متماسكة، قادرة على إنتاج خطة مقاومة فعالة تحمي القضية والهوية، لا إلى مزيد من الانقسام وإعادة إنتاج الهيمنة على أنقاض البيت الوطني.